الأحد الخامس من الزمن الأربعيني (ج)
الأب لويس حزبون
يصف يوحنا الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) عفو السيد المسيح عن المرأة الزانية تأكيدٌ لتصريحاته “أَنا لا أَحكُمُ على أَحَد” (يوحنا 8: 15). تكشف القصة رحمة السيد المسيح تجاه الخطأة، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11)
1″أَمَّا يسوع فذَهَبَ إِلى جَبَلِ الزَّيتون. تشير عبارة “جبل الزيتون” الى الاسم المأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجودًا في الجبل بكثرة. ولا تزال توجد فيه بعض أشجاره الكبيرة الحجم والقديمة العهد إلى الآن في بستان الجسمانية. ويشرف هذا الجبل على القدس من الجهة الشرقية (1 ملوك 11: 7). ويُكثر ذكر هذا الجبل في العهد القديم باسم “جبل الزيتون” (2 صموئيل) و”الجبل” (نحميا 8: 15) و”جبل الهلاك” (2 ملوك 23: 13). ويفصل هذا الجبل عن اورشليم وادي قدرون (2 صموئيل 15: 14). وقد حسبت المسافة بين أقصى قممه الشمالية وبين اورشليم بسفر سبت (اعمال الرسل 1: 12)، أي نحو سبع غلوات ونصف (خروج 16: 29). ومن هذا الجبل توجه يسوع الى اورشليم في أحد الشعانين، ومنه بكى يسوع على المدينة ومصيرها القريب (لوقا 19: 37-44)، وقد تحدث من سفح ذلك الجبل عن خراب الهيكل وتدمير المدينة (متى 24: 3)، وأخيراً منه صعد يسوع الى السماء. ويسّمي العرب جبل الزيتون في الوقت الحاضر جبل الطور.
” 2وعادَ عِندَ الفَجرِ إِلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم.” تشير عبارة “الفجر” الى قول سفر الامثال “أَنا أُحِبُّ الَّذينَ يُحِبُّوَنني والمُبتَكِرونَ إِلَيَّ يَجِدوَنني” (أمثال 8: 17). اما عبارة “الشَّعبُ” فتشير إلى جموع كثيرة. فكانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح الباكر كما يؤكد لوقا الإنجيلي” كانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه”(لوقا 21: 38)؛ أمَّا عبارة “الهَيكلَ” فتشير الى البناء الذي أشاده اليهود ليعبدوا فيه الله. بناه سليمان الحكيم بن داود ودمّره البابليون سنة 581 ق. م. وأعاد بناءه اليهود بعدما رجعوا من بابل بقيادة زربابل 520-516 ق.م. وسّعه هيرودس الكبير سنة 20 ق. وكان في الهيكل قسمان: قسم لا يدخله الاّ الكهنة ويُقال له القدس، وفي القدس مكان يُقال له قدس الاقداس لا يدخله الاَّ عظيم الكهنة مرة في السنة؛ وقسم آخر يدخله اليهود وحدهم؛ وكان في خارج الهيكل عدة اروقة يحق لجميع الناس حتى الوثنيين الدخول الى بعضها. فقد كان يسوع يذهب الى الهيكل أثناء النهار، وفي الليل كان يذهب الى جبل الزيتون. وكان السيد المسيح يُعلم في أورشليم وفي الهيكل يوم العيد الأخير كله، أي اليوم الثامن من عيد المظال.
3″فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ ” : تشير عبارة “الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ” الى معلمي الشعب الذين كانوا يقرأون التوراة ويفسِّرونها وينسخونها، وكان تعليمهم تقليدياً وسلطتهم بشرية. والفِرِّيسيُّونَ هم مجموعة “انفصلت” عن الشعب وتعلّقت بشريعة موسى بحفظها بدقة، كما تعلقت بتقليد الشيوخ (متى 15: 2)؛ وأمَّا الكتبة فهم معلمو الشريعة وقد اعتنوا بدراسة الشريعة والتقاليد لكي يطبِّقوها في حياة الجماعات.
4وقالوا له: ((يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود ” : تشير عبارة “يا مُعَلِّم” الى نفاق ورياء الفريسيين والكتبة اذ يدعون “يا معلم” بينما في اليوم السابق دعوه مُضللًا (يوحنا 7: 47). وتشير هذه الآية الى ان الكتبة والفريسيون لم يحترموا المرأة، بل اذلُّوها. فكان باستطاعتهم ان يحتفظوا بها ويسالوا يسوع دون ان يقدّمونها أمام الشعب. وبالإضافة الى ذلك تطلب الشريعة ان يُرجم الرجل والمرأة معا وليس فقط المرأة لزانية “إِن أُخِذَ رَجُلٌ يُضاجعُ امرَأَةً مُتَزَوِّجَة، فلْيَموتا كِلاهُما” (تثنية 22: 22).
5″وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟: ” تشير عبارة “أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ” الى ما ورد في الشريعة “أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة”(احبار 20: 10). كانت وسيلة الحكم بالموت في ذلك الحين هي الرجم. ويقوم نظام الرجم عند اليهود بان تُربط يدا المجرم من الخلف، وهو نصف عارٍ، ويوضع على منصة ارتفاعها ثلاثة أمتار، ثم يدفعه الشاهدان بكل قوة، فإن مات ينتهي الأمر، أما إذا لم يمتْ يحمل أحد الشاهدين حجرًا ضخمًا ويضرب به على صدره، وغالبًا ما تكون الضربة القاضية. وعليه فإن الزانية لا تستحق الوجود على الأرض، ولا السكنى في بيت، بل تُلقى في حفرة وتنهال عليها الحجارة. فقد الكتبة والفريسيون جوهر رسالتهم وهو الدخول بكل نفس إلى معرفة مشيئة الله، وتمتع الكل بالحب الإلهي بل تمسكوا في الحرف القاتل. اما عبارة “فأَنتَ ماذا تقول؟” فتشير الى ورطة او مصيدة: فإذا افتى يسوع برجم الزانية ثار عليه الرومان لان لهم الصلاحية وحدها في ذلك، وإذا افتى بتبرئتها ثار عليه معلمو الشعب، الفريسيون والكتبة، إذ يخالف شريعة موسى.
” 6وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض.” تشير عبارة” لِيُحرِجوهُ” الى الإيقاع بيسوع في ورطة. كان يسوع مُحرجا بالنسبة للرومان من ناحية لأنهم لم يسمحوا لليهود ان يحكموا بالإعدام على أحد، فمن صلاحية قانون روما وحدها إنزال عقوبة الموت (يوحنا 18: 31)؛ ومن ناحية أخرى كان مُحرجا بالنسبة لليهود، لأنه إذا رفض الرجم كان معارضا لشريعة موسى، وفتح بابًا للزنا، وإن طلب الرجم، فأين الرحمة التي ينادي بها؛ أمَّا عبارة “انحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض” فتلمح انه لم يصدر حكما مما ضايق اليهود.
” 7فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!”: تشير عبارة ” يَرميها بِحَجَر “ تشير الى الرجم، والحجر هو رمز لرجم الشر؛ امَّا عبارة “مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر” فتشير الى صوت العدالة في معاقبة الزانية؛ وعليه فإن يسوع لم يعترض على حكم الشريعة لكنه سأل عمن يتأهل للبدء بالرجم. فمن يريد ان ينفذ القانون عليه ان يكون مع القانون وليس من الخاطئين. وهنا يُذكر يسوع الكتبة والفريسيين بما تقضيه الشريعة (ثنية الاشتراع 17: 5-7) كي يتجنب الفخ المنصوب له او يذكرهم بأنهم خاطئين فلا يدينوا لئلا يُدانوا (متى 7: 1-2). ومن هنا نقل يسوع القضية من امرأة وحيدة خاطئة، الى الجمع كله بدءاً بالفريسيين والكتبة الذين ارادوا ان يحرجوه فأحرجهم. وكأن يسوع يقول لهم “لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُوا لها؟ (متى 7: 3) لقد نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية وجابههم بمعناها الادبي في حياتهم.
“8ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض.” : جاء في بعض المخطوطات أنه كان يكتب على الأرض خطاياهم. كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب، أما هو فما جاء ليدين بل ليخلص. ويوكّد القديس يوحنا الذهبي الفم “يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلًا للكتبة والفريسيين، وتبكيتًا لخطاياهم”. وكأنه يقول للفريسيين “إن كنتم تدينونها، فالأولى أن تدينوا أنفسكم أيضًا، وإن آثرتم رجمها فبالأولى وجب رجمكم.” وعليه فان السيد المسيح أنقذ المرأة الزانية من الموت، ولم يخالف الناموس، لأنه لم عادل ورحيمًا.
9″فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة.” تشير عبارة “انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد” الى انهم فهموا انهم كلهم خطأة؛ وأحسوا انهم دينوا في بواعث قلوبهم. اما عبارة “يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ “فتشير الى انسحاب الشيوخ قبل الشباب؛ وبالتأكيد إن الشيوخ كانوا أكثر إدراكاً لخطاياهم من الشباب، بسبب سنوات عمرهم الأكثر، وأنهم فهموا قوة كلام السيد المسيح قبل غيرهم؛ اما عبارة “بَقِيَ يسوعُ وَحده” فتشير الى يسوع وحده بلا خطيئة وهو وحده قادر ان يعلن ” مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟ “(يوحنا 8: 46). “لم يسقط السيد المسيح في الشباك المنصوبة له، بل بالأحرى سقطوا هم فيها” كما يقول القديس أوغسطينوس.
” 10فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: “أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟” : تشير عبارة ” أَينَ هُم” الى الكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكون المرأة الزانية. اما عبارة “أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟” ة فتشير الى انه ما تجرأ الخطأة ان يحكموا على المرأة الزانية. بقي يسوع، القدوس البار، صاحب الرحمة امام المرأة الزانية، الخطيئة والشقاء. بقيت المرأة الزانية وحدها تقف أمام ديان العالم كله الذي ما جاء ليدين بل ليخلص.
11فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: “وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة”: تشير عبارة “أَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” الى يسوع إله الرحمة الذي لم يحكم على الزانية، بل حرَّرها من قيود حكامها المنافقين الخاطيئن؛ وقد غفر لها إظهارا لرحمة الله الواسعة للخاطئين. فنالت الخلاص والغفران ودعاها ان لا تخطأ بعد. لم يأتِ يسوع ليدين العالم بل ليخلصه كما حدث مع المرأة الخاطئة (لوقا 7: 36-50). لكنه أوصاها بان لا تخطئ. لم ينهِ يسوع عن تقييم بموضوعية، بل ينهي عن الحكم على سائر الناس، فينسب الى نفسه السلطان الخاص بالله الديان وحده “السَّمَواتُ تُخبِرُ بِعَدلِه لِأَن اللهَ هو الدَّيَّان” (مزمور 50: 6). انه لا يستخف بالخطيئة او يتجاوز عنها بأي شكل، لان بر الله يدين الخطيئة. والدرس الذي علمه لليهود هو ان البشر ليسوا المنفذين لعقاب الله. ان الحق الكائن في المسيح وبّخ الكذب في الكتبة والفريسيين، والطهارة الكائنة فيه أدانت الشهوة الكائنة في المرأة الزانية. وأما عبارة “ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” فتشير الى التوبة، والاَّ صدق المثل القائل: ((عادَ الكَلْبُ إِلى قَيْئِه يَلحَسُه)) و((ما اغتَسَلَتِ الخِنزيرةُ حتَّى تَمَرَّغَت في الطِّين” (2 بطرس 2: 22).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: إدانة الزنى ورحمة السيد المسيح للمرأة الزانية
1) إدانة الزنى
الزنى هو فعل ينهك حرمة تابعية المرأة لرجلها أو خطيبها “وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة” (الاحبار 20: 10)؛ لذا حُرِّم تحريماً باتاً كما جاء في الوصايا العشر “لا تَزْنِ” (خروج 20: 14)؛ إذ ان الرجل والمرأة، هي وهو، واحداً في أمانة متبادلة كما جاء في سفر التكوين “قالَ الإِنسان: ((هذهِ المَرَّةَ هي عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحْمي. هذه تُسَمَّى اَمرَأَةً لأَنَّها مِنِ آمرِئٍ أُخِذَت)) ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا” (تكوين 2: 23-24). وقد أدان الحكماء التردُّد على المومسات،” لا تَلْقَ المَرأَةَ البَغِيَّ لِئَلاَّ تَقَعَ في أَشْراكِها (سيراخ 9: 3).
ولم يتردد السيد المسيح أيضا من إدانة خطيئة الزانية، إذ كشف عن كل أبعاد الأمانة الزوجية “سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ، أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه” (متى 5: 27-28)؛ ويزني بالقلب من يشتهي الاقتران بغير قرينته. وبيّن يسوع أيضا أن الزواج يربط الزوجين برباط غير قابل للانفصام فلا “يكونانِ اثنَينِ بعدَ ذلكَ، بل جَسَدٌ واحد. فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان” (متى 19: 6). ومن هنا جاء تعليم القديس بولس الرسول “لِيَكُنِ الزَّواجُ مُكَرَّمًا عِندَ جَميعِ النَّاس، ولْيَكُنِ الفِراشُ بَريئًا مِنَ الدَّنَس، فإِنَّ الزُّناةَ والفاسِقينَ سيَدينُهمُ الله”(عبرانيين 13: 4). لذا تَحرم خطيئة الزنى دخول الملكوت ” أَما تَعلَمونَ أَنَّ الفُجَّارَ لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله؟”(1 قورنتس 6: 9)، ومن خلال هذه الإدانات تسلّط كلمة الله الضوء على الأمانة الزوجية، التي هي في الوقت نفسه ثمرة الحب وشرطه.
2) رحمة يسوع للمرأة الزانية
ادان يسوع خطيئة الزانية ولكن برحمته خلص المرأة الزانية ولم يحكم عليها. إنه يرحم ولا يرجم، بل أدان من يحكم عليها من الفريسيين والكتبة بقولهم “إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود “(يوحنا 8: 4). فقد عامل بالعدل، اما الزانية فعاملها بالرحمة.
ا) عدل يسوع تجاه الفريسيين:
لقد خانت هذه المرأة زوجها، وبموجب الشريعة الموسوية، تستحق الموت رجماً بحسب ما ورد في الشريعة “أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة”(احبار 20: 10). تجاهل رؤساء اليهود الشريعة إذ احضروها بدون الرجل. وقد طالبت الشريعة برجم كلا الطرفين. وعليه فإنهم استخدموا المرأة الزانية فخا لاصطياد يسوع. فلو قال الاَّ تُرجم لأمسكوه بسبب انتهاكه لشريعة موسى. ولو حثَّهم على رجمها لشكوه الى الرومان الذين لا يسمحون لليهود بتنفيذ حكم الإعدام بأنفسهم. كما انهم لم يهمّهم أبدًا أمر المرأة ولا بأنها أُخِذت في زنىً! لقد أرادوها فقط مصيدةً ليسوع.
“فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض”(يوحنا 8: 6). هذا الصمت والكتابة في التراب غايتان: الأولى هي تسكين روع المرأة الزانية وإعطاؤها شعورا بالثقة. والثانية هي رغبة يسوع في أن يُساعد خصومها وخصومه على الدخول إلى أعماق ذواتهم كي يكشفوا صورة نفوسهم الملوّثة بالخطيئة ويُقنعهم بصمته أن الخاطئ لا يجوز له ان يرجم خاطئا مثله.
ولمّا الحُّوا عليه ان يحكم عليها، اتخذ موقف العدل تجاه من حكموا عليها، وموقف الرحمة تجاه المرأة الزانية. فلم يحكم عليها فحسب، بل أعادهم الى ضميرهم بقوله “مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة” أي انظروا في داخل نفوسكم. قبل إصدار أحكام قاسية. عندئذٍ “انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ” (يوحنا 8: 11). ارتدَّ حكم الفريسيين المرائين على المرأة الزانية عليهم: إذ ما من أحد قد يرجم نفسه بحجر.
ادان يسوع الفريسيين والكتبة حين اعترفوا بخطاياهم، وذلك بانسحابهم الواحد تلو الآخر. إذ إن الفريسيين المرائين ينكرون رحمة الله ويحبون أن يحكموا على الآخرين ويفرحون بأخطائهم ويعتقدون أنهم ينقذون الحقيقة برجم الخاطئين بحيث تصبح القوانين والشرائع حجارًا لرجم الآخرين. وفي هذا الصدد كتب القديس أمبروسيوس “حيث تكون الرحمة يكون الله؛ وأما حيث تكون القساوة والتصلب والحكم فربما تجدون خدام الله ولكنكم لن تجدوا الله”؛ لان الرب لا يحتمل المنافقين والمرائين، ذوي الأقنعة والقلوب المزدوجة كما لا يحتمل الذين يتَّهمون الآخرين ويحاكمونهم؛ لأن جوهر المسيحية هو المصالحة بين الله والإنسان، وبالتالي يسوع يحارب قلب المرائين المتحجّر والقاسي: إن انتهاك حياة شخص آخر، مذنبًا كان أم بريئًا، بالحجارة أو بالسلطة هو رفض لله الذي يقيم في هؤلاء الأشخاص الزناة والخطأة.
أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطيئة، لكن ظهر أنهم هم أنفسهم ليسوا متحررين منها، كانوا كما وصفهم السيد المسيح ممتلئون من الداخل نجاسة “الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً”(متى 23: 27-28)
لم يتحاشى السيد المسيح الشبكة التي نصبوها له، وإنما سمح لهم أن يسقطوا في ذات الشبكة، إذ صاروا في عارٍ أمام الجمع. لم يستطيعوا تنفيذ الناموس، ولم يوجد أحد منهم مستحقًا أن يرفع أول حجرٍ يلقيه بها. “انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ”(يوحنا 8: 9). فقد حوَّل السيد المسيح أنظارهم من التطلع إلى تصرفات المرأة الزانية أو من انتظار الحكم عليها إلى ضمائرهم الداخلية، ليروا الفساد الداخلي، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله. لقد اكتشفوا فسادهم، وبدلًا من الاعتراف به وقبول مشورة طبيب النفوس هربوا كما من المعركة “فأَنَّقَلَبَ النَّصرُ في ذلِكَ اليَومِ إِلى مَناحَةٍ عِندَ كُلِّ الشَّعْب” (٢ صموئيل ١٩: ٣). كل ما فعلوه أنهم خشوا الفضيحة والعار فهربوا لا إلى المسيح مخلصهم، بل إلى خارج المسيح حتى لا يفضحهم نوره.
إن كلمات يسوع وتصرفاته تزيل الأحكام المسبّقة، لأنه برحمته يقودنا أبعد من الأحكام الأخلاقية، فهو يطلب من العين التي ترى الخطيئة في الآخر أن ترى النور فيه. فمن يدين أخاه يُدان، وبالحكم الذي يَحكم به على الغير يُحكم عليه “لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم. أُعْفُوا يُعْفَ عَنكم” (لوقا 6: 37). لان الحكم لله كما يقول القديس بولس الرسول ” فلا تَدينوا أَحَدًا قَبْلَ الأَوان، قَبلَ أَن يَأتِيَ الرَّبّ، فهو الَّذي يُنيرُ خَفايا الظُّلُمات ويَكشِفُ عن نِيَّاتِ القُلوب، وعِندَئِذٍ يَنالُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اللهِ ما يَعودُ علَيه مِنَ الثَّناء. (1 قورنتس 4: 5). وبعد ان حارب يسوع الشر في اللذين استعبدهم الشر، اهتم بالذين اعتبرهم المجتمع خاطئين وأولهم المرأة الزانية
ب) رحمة يسوع تجاه الزانية
يسوع هو الوحيد القادر أن يرمي الحجر الأوّل، هو الوحيد بلا ذنب. ومع ذلك، لم يحكم يسوع على الزانية، انما ادان يسوع خطيئتها ولكن برحمته غفر للمرأة الزانية خلّصها. إنه ذهب أبعد من الشريعة! لم يقل للمرأة أنّ الزنى ليس خطيئةً، ولكنّه لم يحاكمها بحسب الشريعة. وهذا هو سرّ الرحمة. فالرحمة لا تمحو الخطايا؛ انما يغفر الله الخطايا بواسطة الرحمة. فالله غفر لنا بلمسة حنانه!
وعليه فان يسوع قد وقف أمام المرأة الزانية كمن يقف أمام شخص يهمُّه حياتها وتاريخها، وقف ليكون أقرب إليها ويكلّمها، فقد فهم جوهر هذه النفس؛ وحاول ان يُدرك الحقيقة الذي لديها، ويدعوها الى التوبة. فلم يتوقّف عند الخطيئة وإنما عند ألمها وحاجته. فهي تعيش بشعور بالذنب بسبب أخطائها الماضي، لكن يسوع يفتح أبواب سجنها ويحررها، لأنه يعرف أن الإنسان لا يساوي خطيئته، والله لا يهمّه ماضيها إنما مستقبلها. فسألها يسوع أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟”ليكِ أحَد؟” وكأنّ به يقول لها: “أنت ِوحدكِ الآن أمام الله، بدون إتهامات وبدون أحكام! أنتِ والله فقط! فقالت: “لا، يا ربّ!”، لم تبرّر نفسها بل اعترفت بخطيئتها. وقد وصف القديس أوغسطينوس هذا المشهد بقوله: “بقيت الرحمة والبؤس وجها لوجه”.
اخذ يسوع موقف متعاطف، رقة رحمة وصفح، اخذ موقفا يتحدّى موقف الرأي العام. لم ينظر الى قضية الزنى في ظاهرها، بل نظر الى داخل قلب الزانية. فلم يحكم ولم يدنْها، بل غَّيَّر نفسها التي أقفرت وتوحشت بالخطيئة، وحوّلها إلى سلامه. فقال لها ” وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ” (يوحنا 8: 11)؛ وبهه الكلمات أعاد يسوع الى المرأة الزانية شرفها وكرامتها. وفي هذا الصدد قال البابا فرنسيس “رحمة الله هي نور محبة وحنان كبير! إنها لمسة حنان الله على جراح خطايانا”؛ لان مغفرة الله هي محبّة حقيقيّة تحثُّ الإنسان ليصبح أفضل ما بإمكانه أن يصير. “
ومن هنا نستنتج ان قلب هذا النص الانجيلي ليس الخطيئة التي ينبغي أن تُدان أو أن تُغفر، وإنما السيد المسيح الذي هو أكبر من قلبنا ويساعدنا لننطلق مجدّدًا من النقطة التي كان قد وصلنا إليها، فيفتح لنا دروبًا جديدة ويعيده إلى الدرب الصحيح. “لعَلَّ هَوايَ في مَوتِ الشِّرَّير؟ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا؟ “(حزقيال 18: 23)، فيسوع بتصرّفه هذا يقوم بثورة جذريّة ويقلب الفكرة التقليدية لإله يدين ويجازي إلى إله مصلوب يسامح ويغفر؛ من الله الضابط الكل إلى الله الذي يحب الكل؛ من توجيه أصبع الاتهام إلى الأصبع الذي يكتب على القلب المتحجر “أنا أحبّك”.
بتصرفه هذا لم يتجاهل السيد السميح خطيئة الزنى او تجاوز عنها. بل قال لها ” إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” (يوحنا 8: 11). بل طالب التوبة. ولعيه فإن الرحمة الالهية ليست ضعفاً، بل دعوة إلى التوبة. هذه الكلمات تكفي لتبديل الحياة، فلا يهمّ ما مضى لأن المستقبل هو الأهم، والخير الذي يمكنني أن أفعله غدًا هو أهمّ من الشر الذي فعلته في الماضي. فالله يغفر ويحرّر، ومغفرته تعيد الإنسان إلى مسيرته. لقد أعلن أنه جاء ليخلص العالم لا ليدينه،”فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم” (يوحنا 23: 35). وهو مستعد ان يغفر أي خطيئة لكن الاعتراف والتوبة معناهما تغيير القلب. وعليه فإن الرحمة هي أكثر ما هو جوهري لحياة الإنسان.
خلاصة
لا يخبرنا إنجيل يوحنا عن اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الاليهة، لتجد ناموس المسيح قانونها الداخلي الجذَّاب، فتنعم بالصوت الإلهي “ما جِئتُ لأَدينَ العالَم بل لأُخَلِّصَ العالَم ” (يوحنا 12: 47). فلا تجد من يحكم عليها بالموت الأبدي، بل من يشتريها بالدم الثمين ويهبها برَّه السماوي، ويشفع فيها أمام الآب، ويدخل بها إلى الأحضان الإلهية. فبفضل رحمة السميح تحولت هذه القصة من وقوف في محكمة إلى دخولٍ في الملكوت. ويحذرنا القديس أوغسطينوس من اليأس والرجاء الباطل “من ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له يقتل نفسه باليأس. ومن يسترخي مهملًا في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل”.
إنّ فرح الإنجيل يملأ قلب وكلّ حياة الذين يلتقون الرّب يسوع المسيح. فمن يستسلمون له يتحرّرون من الخطيئة والحزن والفراغ الداخليّ والعزلة. مع الرّب يسوع المسيح يولد الفرح دائمًا وينبعث من جديد.
لنصغي أخيراً الى دعوة البابا فرنسيس: “أدعو كلّ مسيحيّ أينما وجد وفي أي ظروف كان، إلى أن يجدّد اليوم لقاءه الشخصيّ مع الرّب يسوع المسيح، أو على الأقلّ، أن يأخذ قرارًا بأن يدع الرّب يسوع المسيح يلتقيه، او أن يبحث عنه كلّ يوم باستمرار. لا يفكّر أحد أنّ هذه الدعوة غير موجّهة له، لأنّ لا أحد مستبعدًا عن الفرح الذي يحمله إلينا الرب” (البابا بولس السادس).
كم تريحنا العودة إليه بعد أن نكون قد ضلّلنا الطريق! إنّ الربّ لا يتعب أبدًا من الغفران: نحن مَن نتعب من طلب الرحمة. مَن دعانا لنغفر “سبعين مرّة سبع مرّات” (متى 18: 22) يعطينا المثل. يعود ويحملنا على منكبيه مرّة تلو الأخرى (لوقا 15: 5). إنّه يُمَكِّنُنا من أن نرفع رأسنا ونبدأ من جديد، بحنان لا يخيّبنا أبدًا وبرحمته الواسعة.
دعاء
“يا ربّ،
لقد خُدعت بطرق عديدة وهربت من حبّك، ومع ذلك هاءنذا أمامك مرّة جديدة لتجديد عهدي معك. إني أحتاج إليك. خلّصني يا ربّ واقبلني مجدّدًا بين ذراعيك المفتوحتين “.
يا رب،
أنت الوحيد الذي يستطيع أن يرمينا بحجارة كثيرة، لأنّك الوحيد بدون خطيئة. ولكنك لا ترمينا بأية حجرة ولا تحكم علينا.
شكراً يا رب، من أجل حبّك ومن أجل مغفرتك.
شكراً لأنّك تحبّنا حتى حين نقع في الخطيئة.
شكراً لأنّك حوَّلتَ حجارتنا المتّسخة إلى حجارة ثمينة ذات قيمة.
شكراً لك لأنّك أعطيتنا الامكانية لمعرفة خطايانا وعيش لحظات المصالحة معك.
أعطنا ألاَّ نرمي بعد الآن بالحجارة الآخرين.
أعطنا أن نعيش في محبتك، أصدقاء لك وأصدقاء للجميع.